السماء من الدلالات الحسية على عظمة وضخامة الأبعاد والانتظام في الحركة والدقة ووحدة البناء، وكل ذلك يشهد للخالق المبدع بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، فلا يمكن لمثل هذا الكون الشاسع الاتساع، الدقيق البناء، المحكم الحركة، المنضبط في كل جزئية من جزئياته أن يكون نتاج الصدفة أو العشوائية. ولا يمكن أن يكون قد أوجد ذاته بذاته، بل لابد له من موجد عليم حكيم قادر مقدر، له من صفات الكمال والجمال والجلال، ومن طاقة القدرة وإحكام الصنعة وإحاطة العلم ما مكنه من إبداع كل ما خلق من السماوات والأرض وما فيها من سنن كونية وظواهر أرضية وسماوية.
الكون يتمدد 105 كيلومترات في الثانية
تأتي الإشارة إلى عظمة الله في قوله تعالى: “ومن آياته خلق السموات والأرض” (الشورى: 29)، وفي هذا إثبات لقدرة الله تعالى وصفات الكمال للخالق بالآيات الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه القاهر، والسماء كآية كونية معروضة على الأنظار، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به، وهى آية لا تحتمل جدلا ولا ريبة، فهي قاطعة الدلالة، تخاطب الفطرة بلغتها.
ويبنه القرآن الكريم في مواضع عدة إلى بالغ قدرة الله الخالق في خلق السماوات ورفعها وإحكام بنائها وجعلها مكللة بالكواكب والنجوم وغيرها من الأجرام التي لا تحصى دون تفاوت أو خلل في البناء يقول تبارك وتعالى: “أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها” (النازعات: 27 - 28).
اتزان الأجرام السماوية
ولفظ السماء في اللغة العربية يطلق بوجه عام على النظام الكوني الذي فوقنا أي فوق الأرض القريب منه والبعيد، والدعوة القرآنية إلى تأمل هذه السماوات فيها حث على إعمال العقل وتدبر آيات الكون ونواميسه للتعرف إليها عن طريق البحث العلمي السليم، ذلك أن سلامة هذا البناء الكوني شرط من شروط اتزانه واطراد سننه وقوانينه العاملة فيه وفق إرادة الله تعالى ومشيئته المطلقة، كما أن سلامة هذا البناء الكوني من دلائل القدرة الإلهية التي ترسخ الإيمان بالخالق الواحد سبحانه وتعالى، فالقرآن الكريم يكرر في خطابه للبشرية أن السماوات والأرض مخلوقة للإنسان وأن رفعها وإحكام بنائها مهيأ ومحفوظ ومحروس ومزين على نحو ينسجم مع تحقيق مصالحنا ومعاشنا ومنفعتنا.
وقد فطن العلماء إلى بعض أسرار الإعجاز العلمي في التعبير القرآني: “بناء” خاصة بعد أن تقدم العلم الحديث وحقق خطوات ناجحة على طريق الفهم الصحيح لحركة الأجرام السماوية واتزانها في أفلاك ومدارات خاصة لا تحيد عنها ولا تفلت من إسارها بحيث لا تتداخل مع بعضها بعضاً أو تسقط على أجرام أخرى.
وتعرف العلماء إلى نوعين من القوى الأساسية العاملة على حفظ هذا الاتزان، وهما قوة الجذب المركزية، والقوة الطاردة المركزية. وجميع الأجرام السماوية تتحرك بسرعات محددة لتسلك مساراتها المحددة التي قدرها الله سبحانه وتعالى لها في فضاء السماوات، فهو وحده القادر على إكسابها هذه السرعات بالقدر المطلوب الذي يجعل من السماوات بناء محكما.
وقد جاء في تفسير قول الله تعالى: “والسماء وما بناها” (الشمس: 5)، أن الله سبحانه وتعالى جعل كل كوكب من الكواكب في الكون بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بنا، وشد هذه الكواكب برباط الجاذبية العامة، مثلما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها من “الأسمنت” الذي تتماسك به.
توسع الكون
وأوضح ما يميز بناء السماء من البنيان الأرضي هو تماسك أجزائها على البعد بالجاذبية من غير تماس، وهذا أمر عجيب يدركه العلماء المحدثون ولا يعرفون سره، لأنه نوع من القوى المجالية التي لا ترى. لكن الواقع يجعلنا نسلم بحقيقة وجودها رغم طبيعتها غير المرئية التي يخصها الله تعالى بها.
والتشبيه بالمباني إحدى الصور البيانية الرائعة التي استخدمت كثيرا في القرآن الكريم والسنة المطهرة مثال ذلك قوله تعالى: “أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين” (التوبة: 109).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأجمله وأحسنه إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”.
ويأتي قول الله تعالى: “والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون” (الذاريات: 47) ليؤكد مدى قدرة وقوة الخالق سبحانه وتعالى. وأدرك علماء التفسير والعقيدة إمكانية توسع الكون بشكل دائم، وفي عام 1929 أكد العالمان الفلكيان “همسن” و”هابل” نظرية توسع الكون بالمشاهدة، وأن جميع المجرات آخذة في التباعد عن بعضها بسرعة تصل إلى 105 كيلو مترات في الثانية، وهكذا تبدو معاني الآية الكريمة قريبة إلى الأذهان بعد توصل العلم إلى حقيقة أن الكون له بداية يتسع منها ويتمدد، “وإنا لموسعون” قول لا يحتمل التأويل، وهذا ما يحدث للكون الآن ومنذ ملايين السنين من اتساع وتمدد مستمر، فالسماوات تتسع والكون يتمدد، وهذه الحقيقة ليست قائمة على نظرية أو افتراض أو أنموذج، وإنما على مشاهدات العلماء والحقائق العلمية.